في عالم تُصاغ فيه السياسة بقدر ما تُمارس، داخل الفضاء التواصلي لا خارجه، لا تعود اللغة المستخدمة في المجال السياسي مجرد أداة تواصلية، بل تصبح ميدانًا رمزيًا للصراع على المعنى وتوجيه الإدراك. فالكلمات لا تُسمّي الأشياء، بل تُعيد تشكيلها وتموضعها ضمن خرائط الإدراك الجماعي. ولهذا، فإن افتراض حياد اللغة يغفل عن بعدها السلطوي الثاوي في خطاباتها، ويُهمل دورها في إنتاج الشرعية وإعادة ترتيب السلطة، وفي تشكيل الواقع ذاته.
فالخطاب السياسي ليس مرآة محايدة تعكس الواقع، بل هو بنية تشكل الواقع نفسه ضمن أنساق رمزية تؤطّر ما يُقال، وتُقصي ما يُخرِجه عن المعنى المقبول. ولأن الخطابات السياسية تختلف في مصادرها وتتباين في أجنداتها، فإن الإدراك الناتج عنها لا يكون موحدًا، بل يتشظى بتعدد هذه الخطابات، ويتصارع بتناقضها. وهكذا، يغدو الإدراك نفسه ساحة إضافية للصراع السياسي، لا مجرد انعكاس له.
ما يبدو أنه مجرد تلاعب لغوي أو زخرفة بلاغية، هو في جوهره ممارسة سياسية مكثفة. ففي سياق تُدار فيه الوقائع بقدر ما تُدار تمثلاتها، تصبح اللغة أداة محورية لضبط الإدراك، ووسيلة لإعادة إنتاج السلطة، لا مجرد قناة للتعبير عنها. ومن يملك سلطة التسمية وإعادة التأطير، يملك القدرة على توجيه دفة النقاش العام، وبالتالي التأثير في مسارات الإدراك الجماعي، وتحديد من يُعترف به فاعلًا سياسيًا مشروعًا، ومن يُدفع إلى الهامش بوصفه عنصر تهديد أو فوضى.
فعندما توصف المعارضة بـ«الفتنة»، أو تُؤطّر المقاومة بوصفها «إرهابًا»، لا تكون المعركة على الكلمة مسألة لغوية شكلية، بل معركة على الشرعية والتمثيل. مصطلح «الفتنة» لا يُستخدم هنا بوصفه توصيفًا حياديًا لحالة سياسية، بل يُحمّل خصوم السلطة دلالات تاريخية ودينية، ترتبط في الوعي الجمعي بمفاهيم الانقسام والشر الأخلاقي، فتُخرجهم من فضاء النقاش السياسي وتُدخلهم في خانة الخطر الوجودي. هكذا تُصبح المعارضة مرادفًا للفوضى والخراب، لا لموقف سياسي مشروع. وبالمثل، حين يُؤطّر فعل المقاومة باعتباره «إرهابًا»، فإن الخطاب لا يُدين الفعل فحسب، بل ينزع عن صاحبه أي مشروعية نضالية أو حق بالمقاومة، ويُفرغه من أي بُعد حقوقي أو تاريخي، ويُقدمه كقوة عنف لا عقلانية، خارج حدود المعنى السياسي، وأقرب إلى التهديد المطلق.
هذا التأطير ليس تعبيرًا عابرًا، بل تهيئة معرفية تسبق التصفية الرمزية أو حتى المادية. فحين يُنزع عن المعارض أو المقاوم الاعتراف بصفته فاعلًا عاقلًا حاملًا لقضية أو موقف، يُعاد تصنيفه في لا وعي الجمهور كشخص لا يستحق الإصغاء، ويشرعن ممارسة الإقصاء بحقه. وهكذا تُبرَّر السياسات القمعية لاحقًا من داخل هذا النسق ذاته، لا تُقمع المعارضة لأنها تطالب، بل لأنها فتنة، ولا تُحارب مقاومة لأنها تقاتل الاحتلال، بل لأنها تهديدٌ عبثي يجب استئصاله. هكذا تعمل اللغة، لا كمجرى للمعنى فقط، بل كبنية تُعيد ترتيب العلاقات، وتُرسم من خلالها خرائط الشرعية والمظلومية والتهديد.
لا تعمل اللغة بمعزل عن سياقها أو تتحرك في فراغ، بل تنضوي ضمن أنساق خطابية تُنتج ما هو ممكن قوله، وتضع حدودًا لما يُمكن التفكير فيه أو حتى تخيّله. فالخطاب السياسي ليس تجميعًا لمفردات ومواقف، بل هو بنية منظمة ومتماسكة من المفاهيم والقيم والافتراضات الضمنية، التي تعيد ترتيب العالم الرمزي وتُعيد إنتاج ميزان القوة داخله. وتتجلى خطورة هذه البنية حين يستقر نسق خطابي معين، مثل ربط مفاهيم «الاستقرار» بالحكم السلطوي، أو اختزال «المواطنة» في الطاعة، عندها، يُصبح من العسير مساءلة منطقه الداخلي، لأنه يُقدّم لا كوجهة نظر، بل كالحقيقة الوحيدة الممكنة.
حين تستقر الأنساق الخطابية المهيمنة، لا تُقصى الأصوات المعارضة فقط، بل يُمنع التفكير خارج منطقها ذاته. وتتحقق الهيمنة الناعمة حين لا تعود هناك حاجة إلى القمع المباشر، لأن السلطة الرمزية تكون قد رسّخت منطقها في الوعي الجمعي، وأعادت تعريف شروط الظهور المقبول في المجال العام.
الهيمنة الرمزية تتجسّد في اللغة ذاتها، كآلية لإنتاج الشرعية الرمزية. وتُمارَس عبر أنساق يُقدَّم ظاهرها كأمر بديهي لا يُساءل، بينما يُصمَّم باطنها بعناية لإقصاء كل ما لا ينسجم معها. لهذا، لا تكتفي اللغة بأن تكون أداة للتواصل، بل تعمل كسلطة رمزية تُعيد تشكيل الشرعية في كل مرة يُعاد فيها تشكيل المعنى.
من أبرز تمظهرات الصراع على اللغة في السياسة، توظيف خطاب المظلومية كسردية قادرة على تحويل الألم الواقعي إلى رأس مال رمزي. فالمسألة لم تعد تتعلق بمدى المعاناة الموضوعية، بل بمدى قدرة الخطاب على تأطيرها بشكل مؤثر في الضمير العام، أو تُبرّر موقعًا سياسيًا ضمن ميزان الاعتراف. لا تنبع الهيمنة من حجم الألم، بل من الكفاءة في اللعبة الخطابية، أي من القدرة على إنتاج سردية تمثيلًا معترفًا به. أي أن المظلومية تتحول من تجربة تاريخية إلى سردية سياسية، تُستخدم لإعادة توزيع الشرعية داخل المجال العام. وبهذا، تغدو المظلومية استراتيجية تأطيرية، تُمارَس بوعي وتُستثمر في إنتاج سرديات تتنافس على التمثيل أكثر مما تتقاطع في التضامن.
يكشف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني عن تراتبية رمزية صارخة في توظيف خطاب المظلومية. ففي الوقت الذي تُقدَّم فيه المحرقة النازية (الهولوكوست) كسردية مُؤَطَّرة عالميًا كرمز للظلم الإنساني، تُواجه معاناة الفلسطينيين (كالتهجير، والحصار، والاحتلال) بخطابات تُصوِّرها كأكاذيب أو تحريض. هنا، تُمارس إسرائيل سردية مزدوجة: أولًا- تأطير مظلوميتها التاريخية: استخدام ذكرى الهولوكوست كأساس أخلاقي لشرعية وجودها، مع توظيف مصطلحات مثل «الحق في الدفاع عن النفس» لتبرير سياساتها العسكرية. ثانيًا - إنكار مظلومية الفلسطينيين: وَصْم مقاومتهم بـ«الإرهاب»، وتحويل معاناتهم إلى «أضرار جانبية» في سياق «الحرب على الإرهاب». حتى أن مصطلحات مثل «النكبة» الفلسطينية تُقابل بإنكار رسمي في إسرائيل، حيث يُحظر إحياء ذكراها في المؤسسات التعليمية.
هذا الصراع الرمزي يُظهر كيف تُصبح المظلومية عملة قابلة للتبادل السياسي، الاعتراف الدولي بالهولوكوست يُستخدم لشرعنة سياسات تُنكر حق الفلسطينيين في السردية الموازية. بينما تُقابل حركات التضامن مع الفلسطينيين باتهامات «اللاسامية»، كوسيلة لتجريدها من الشرعية الأخلاقية.
حتى في النقاشات حول غزة، تُستخدم مقولة «أين كانت هذه الضمائر عندما كان اليهود يُحرقون؟» لتحويل الانتقاد السياسي إلى إهانة لرمزية الهولوكوست، مما يُعيد إنتاج التراتبية الرمزية: الألم اليهودي مُعترف به عالميًا، بينما الألم الفلسطيني يُختزل إلى رواية مشكوك في مصداقيتها.
تكمن خطورة هذه الظاهرة، في أنها لا تكتفي بتشويه الوقائع، بل تهندس الاعتراف الرمزي عبر رسم خرائط الضحايا والجناة وفق منطق تمثيلي انتقائي. فعندما تحتكر سردية واحدة حق التعبير عن المعاناة، تُقصى سرديات أخرى، تُواجَه بالتشكيك، أو الإنكار، أو التبرير. ويُعاد تصنيف أصحابها كتهديد رمزي، أو كعبء على التوازن العام. ولا يعود الاعتراف مرهونًا بعمق الإلم، بل بمدى فاعلية السرد في فرض تمثيلها داخل بنية الاعتراف المعترف بها، وتمريرها ضمن خطاب مُعترف به سياسيًا وإعلاميًا. هكذا تتحول المظلومية إلى أداة لترتيب الحقول السياسية لا وفق معيار العدالة، بل حسب قابلية الألم بأن يصبح خطابًا قابل للتداول والمكافأة الرمزية.
بذلك تتحوّل السياسة إلى اقتصاد اعترافات، تُوزَّع فيه شرعية الألم وفق توازنات القوة، وتُقيَّد فيه المظلومية بلغة الواقعية واعتبارات الحساسية الطائفية أو القومية.
في المجتمعات الخارجة من الحرب والنزاع أو تلك التي تمر بتحولات سياسية جذرية، تتضاعف حساسية اللغة، والمفاهيم السياسية تتحوّل إلى حقول ألغام. فالكلمات التي تبدو محايدة، كالعدل، والحرية، والسيادة، والهوية، تتراكم حولها حمولة رمزية هائلة: معانٍ تاريخية، ورموز أيديولوجية، وانفعالات جمعية لم تُحلّ.
في مثل هذا السياق، تتوقف المفاهيم السياسية عن كونها مجرد أدوات تحليلية، أو موضوعات قابلة للاستخدام الحيادي، وتتحوّل إلى ميادين للصراعات الرمزية بين الرؤى المتباينة، يُعاد فيها التفاوض حول كل المفاهيم، ليس لأن المفاهيم غامضة بطبيعتها، بل لأن كل طرف يُعيد صياغتها وفق موقعه في موازين القوة ورغبته في رسم ملامح النظام القادم. فمصطلحات مثل الديمقراطية أو السلطة أو الحق، لا تستقر على معنى واحد، لأن دلالاتها تتغير بتغير من يستخدمها، والسياق الذي تُستعمل فيه، والأجندة التي توظَّف من أجلها.
لا تبقى اللغة مجرد أداة للتسمية والتوصيف، بل تصبح أداة لتحديد من يُدرَج في الحقل الشرعي، ومن يُقصى بوصفه خطرًا وجوديًا. من يُقرّر أن مقاومة ما هي تحرير، وأخرى إرهاب؟ هذه ليست أسئلة لغوية، بل سياسية وأخلاقية في المقام الأول، تُستخدم فيها اللغة بوعي سياسي حاد لتثبيت تراتبية خفية، يُحمِّل الخطاب فيها الكلمات شحنة عاطفية وأخلاقية، تُعيد ترتيب العالم عبر ثنائية العدو والصديق، وتُعيد صياغة العلاقات ليس على أساس الوقائع، بل وفق التراتب الرمزي للسلطة.
المشكلة لا تكمُن في اللغة ذاتها، بل في طبيعة المفاهيم التي نُنتجها ونُروّج لها. ، تحمل الكلمات رؤى مضمَرة للعالم، تخبأ بداخلها انحيازات، وقيمًا، وتراتبيات رمزية. ولهذا، لا يكفي أن نفكك الخطاب السياسي شكليًا، بل لا بد من مساءلة بنيته الأخلاقية: ما الذي يُقال؟ من يقوله؟ ولماذا يُقال بهذه الطريقة تحديدًا؟
وما يجعل هذا أكثر إلحاحًا، أن اللغة لا تظل في حدود التجريد والمجاز، بل تنزل إلى الواقع. حين يُجرَّد إنسان من اسمه، ويُستبدل بوصف سياسي مشحون بالخوف أو النبذ، فإن ما يتغير ليس تمثيله الخطابي فحسب، بل موقعه الوجودي ذاته. فالكلمة التي تنزع الاسم، وتستبدله بصفة تُجرّده من فردانيته، تفتح المجال لمسار متكامل من نزع الإنسانية، يبدأ بالوسم، وقد يمرّ بالإقصاء، وينتهي بالنفي الرمزي، وربما المادي. هنا لا تعود اللغة مجرّد وسيلة للتوصيف، بل تصبح وسيلة للترتيب الأخلاقي، تحدد من يُعتَبر إنسانًا كامل الحضور، ومن يُقصى خارج حدود الحياة الجديرة بالحزن، على حدّ تعبير جوديث بتلر. في مثل هذا السياق، تُصبح بعض الحيوات مرئية، محاطة بالتعاطف والاعتراف، فيما تُنتزع عن حيوات أخرى أهليتها الرمزية، ويُعاد تصنيفها كتهديد أو عبء، لا كضحايا أو أناس يستحقون الظهور في المجال العام. ولهذا، لا تُمثّل اللغة أداة تحليل فقط، بل ميدانًا أخلاقيًا وسياسيًا حاسمًا، تُرسَم فيه حدود الشرعية الرمزية، ويُعاد عبره توزيع الاعتراف في الفضاء العام.
لم يقتصر التحول الرقمي على تغيير أدوات التعبير السياسي، بل مسّ بنية السلطة ذاتها، فبدّل موقعها وطرائق ممارستها وتمثيلها. في العالم الرقمي، لم تعد الهيمنة الرمزية حكرًا على الدولة أو على النخب التقليدية التي كانت تحتكر إنتاج الخطاب العام، بل باتت موزعة بين فاعلين جدد، غير مرئيين في أغلبهم، يملكون قدرة آنية على التأثير، ويمارسون السلطة من خارج أدوات الدولة. لقد أصبحت الخوارزميات فاعلًا سياسيًا مستترًا، يحدد من يُظهَر ومن يُقصى، ويفرز المحتوى وفق آليات لا تستند إلى نقاش عام أو معايير قانونية، بل تُدار تحت مسميات غامضة كالمعايير المجتمعية أو ضوابط السلامة، بينما تخضع اللغة ذاتها لإعادة تشكيل مستمر من خلال أنظمة تصفية خفية، تعيد تنظيم المجال الرمزي دون مساءلة ديمقراطية.
تأثير هذا التحول لا ينعكس فقط على أدوات التعبير، بل على طبيعة الخطاب السياسي نفسه. اللغة السياسية لم تعد تُنتَج في قمم القرار أو قاعات المؤتمرات، بل تصاغ غالبًا في الحقول المفتوحة للمنصات، حيث يمكن لهاشتاغ عابر أو مقطع قصير أن يتجاوز في تأثيره خطابًا رسميًا مدروسًا. ومع أن هذه البيئة وسّعت من هامش التعبير، فإنها لم تُلغِ السيطرة، بل أعادت توزيعها على نحو غير مرئي، يُعيد إنتاج الانقسام لا من خلال الجدل أو التنوع، بل عبر تكوين فقاعات إدراكية تعيد تأكيد الانحيازات، وتعزل المستخدمين في بيئات خطابيّة مغلقة، لا يسمع فيها الفرد سوى أصداء صوته. هكذا تتكون جماعات شعورية متخندقة، تُنتج خطابها عبر منطق الهوية، لا منطق الحجاج.
في هذه البنية الجديدة، تتكاثر سرديات المظلومية الجماعاتية، وتتحول إلى أدوات تعبئة تغذي شعورًا دائمًا بالغبن، وتُعيد تأطير التعدد بوصفه تهديدًا وجوديًا. لم تعد هذه الظواهر حكرًا على سياقاتها القومية، بل باتت تنتقل بين المجتمعات بوصفها عدوى رمزية، تُستنسخ فيها السرديات وتُعبّأ في قوالب جاهزة، بلا اعتبار للخصوصيات المحلية. هكذا تنشأ عولمة خطابية، تنتج نماذج موحّدة من الشعبوية والانقسام، تُدوّر الانفعالات السياسية في صور شبه متطابقة، وتُعيد إنتاج خطاب الكراهية كسلعة قابلة للتسويق والتعبئة.
وقد تجلّت هذه الديناميات بوضوح في التجربة الخطابية لدونالد ترامب، الذي مثّل نموذجًا صارخًا لتحوّل الخطاب السياسي إلى ممارسة رمزية هجومية تُدار عبر المنصات، لا المؤسسات. لم يكن ترامب يعيد إنتاج الواقع، بل كان يُفرغه من ثوابته عبر تكرار سرديات التشكيك، وتأطير الصحافة كعدو، وتوظيف مفاهيم مثل الدولة العميقة أو السرقة الانتخابية لصياغة عالم بديل، لا يقوم على المعطيات، بل على الانفعال والولاء الخطابي. من خلال التغريدات القصيرة والمقاطع المحفزة للغضب، استطاع أن يخلق واقعًا إدراكيًا موازيًا لأنصاره، ويؤسس فضاء خطابيًا مغلقًا يستبطن لغة الأزمة والعدوان، ويُقصي الأصوات المخالفة بوصفها تهديدًا وجوديًا.
ولم يقتصر التلاعب على إنتاج السردية وتوزيعها، بل امتد إلى خلق التشويش نفسه. فالتضليل لم يعد يعتمد فقط على اختلاق الأخبار الكاذبة، بل على الإغراق المنظّم بالمحتوى، وتكرار الرسائل المتضاربة، ما يفرغ الحقيقة من معناها، ويُربك الإدراك العام. في هذا السياق، يصبح الخطاب السياسي ذاته عرضة للتفريغ، حيث لا يُعرَف ما إذا كان الكلام فعلًا حقيقيًا أم جزءًا من تمثيل مُضلّل، وتصبح اللغة أداة للتشويش بدلًا من التواصل، وساحة يُعاد فيها إنتاج العجز الإدراكي، لا الفهم العام.
وقد ظهرت هذه الآليات في حالات مختلفة، مثل تجربة كامبريدج أناليتيكا، حيث استُخدمت البيانات الشخصية لتوجيه الرسائل بناء على الهوية والانفعال، لا الفكرة والمصلحة، أو في الحالة السورية، حين استُخدمت أدوات التضليل الروسي لتقويض شرعية منظمة الخوذ البيضاء من خلال روايات تشكك، وتُربك، وتُقصي دون عنف مباشر، بل عبر إعادة تعريف الرموز والتمثيلات. في كل هذه الحالات، لا يتم فقط التأثير في المواقف، بل يُعاد إنتاج الواقع ذاته ضمن خرائط رمزية جديدة.
في هذا المناخ، لم تعد المنصات الرقمية مجرد فضاءات للتواصل، بل تحوّلت إلى آليات رمزية تُعيد إنتاج السلطة وتوزيع الشرعية. اللغة لم تعد وسيلة حيادية تُستخدم في التعبير، بل أصبحت ميدانًا للضبط والتصفية، تُخاض فيه معارك رمزية على المعنى، وتُحدَّد عبره خريطة الفاعلين والمهمشين في المجال العام. الكلمات لم تعد أدوات، بل مواقع للهيمنة، تُستخدم لا لوصف العالم، بل لإعادة ترتيبه وفق خرائط القوة الجديدة، وتُمارَس من خلالها سياسات الإقصاء الناعم تحت غطاء المشاركة والانفتاح، ولكن بإدارة خفية تفرض شروط الاعتراف، وتعيد تعريف ما هو ممكن قوله، ومن يُسمَح له أن يُقال عنه شيء.
في نهاية المطاف، لا يظهر الصراع السياسي فقط في ساحة المؤسسات أو عبر موازين القوة المادية، بل يتجلى على نحو أعمق في ميدان المعنى ذاته. فاللغة ليست حيّزًا محايدًا يتبادل فيه الخصوم المصطلحات، بل هي الفضاء الذي تُعاد فيه صياغة الوقائع، وتُرتّب من خلاله الرموز، ويُعاد تعريف الشرعية والمظلومية والعدالة. كل تعبير سياسي هو فعل تأطير؛ وكل تأطير يُنتج تمثيلًا، وكل تمثيل يرسم حدود الاعتراف بمن يُعدّ فاعلًا مشروعًا ومن يُقصى بوصفه تهديدًا رمزيًا أو فائضًا عن الحاجة.
وفي هذا السياق، لا تتعلّق المعركة حول المفاهيم بل تمسّ البنية الأخلاقية والسياسية التي تحدد من يمتلك سلطة التسمية، ومن يُفرَض عليه الصمت. فالمعنى هنا ليس نتيجة اتفاق جماعي، بل محصلة توازن قوى رمزي، تُمارَس فيه الهيمنة لا فقط من خلال السيطرة على ما يُقال، بل من خلال نزع القدرة على القول عن آخرين. من يُحدّد أن هذا الألم يستحق الاعتراف، وذاك يُعتبر ضجيجًا؟ من يُسمَح له بأن يحكي قصته بلغة مُعترف بها، ومن يُمنع من تمثيل ذاته إلا عبر سرديات مشكوك فيها؟
التحولات الرقمية لم تُلغِ هذا الصراع، بل عمّقته ووزّعته، فأصبحت اللغة ميدانًا أكثر سيولة وأشد تعقيدًا. بات إنتاج المعنى السياسي لا يمر عبر مؤسسات تداولية، بل عبر شبكات التأثير اللحظي، حيث تُنتج الحقائق، وتُستهلك، وتُلغى بسرعة فائقة. هنا، لم يعد الصراع حول مضمون الرسائل فقط، بل حول شروط قولها، وسياقات تأطيرها، وفاعليتها الرمزية. لقد تحوّل المجال السياسي إلى اقتصاد للتمثيل، يتصارع فيه الفاعلون على أن يُعترف بوجودهم، لا فقط عبر الوقائع، بل من خلال اللغة التي تُعيد بناء تلك الوقائع، وتمنحها شرعية التداول.
هكذا، يغدو المعنى نفسه ساحة للصراع السياسي، لا باعتباره مسألة تفسير، بل بوصفه مجالًا يُدار فيه الحق في الظهور، والحق في التسمية، والحق في أن يُؤخذ صوت ما بجدية. وهذا ما يجعل تحليل الخطاب ضرورة سياسية، لا أداة تحليل ثقافي فقط، لأنه يكشف كيف يُعاد إنتاج العالم لا كما هو، بل كما يُراد له أن يُفهم.
إدراك الطابع الصراعي للغة لا يكفي بحد ذاته. فالسؤال الذي يفرض نفسه بعد كل هذا التفكيك هو: ما العمل؟ كيف يمكن بناء وعي نقدي بالخطاب لا يكتفي بقراءة ما يُقال، بل يُنقّب عمّا لا يُقال، ويتحرّى من يُقصى من التمثيل، ومن يُحتكر له الحق في التسمية؟ يتطلب هذا الوعي النقدي قدرة مزدوجة: أن نُصغي إلى اللغة لا بوصفها مجرى للمعاني فقط، بل كبنية للسلطة. وأن نُفكّك الأنساق المهيمنة دون الوقوع في فخ السخرية أو العدمية. فالنقد هنا ليس ترفًا نظريًا، بل ضرورة سياسية؛ أداة لحماية المجال العام من الانغلاق، ولصون الحقيقة من الذوبان داخل طوفان السرديات المتضاربة.
في زمن تتكاثر فيه الخطابات كالفطر، وتُراكم فيه التمثيلات نفسها بلا مساءلة، يكمن الفعل السياسي الأعمق في أن نُعيد الاعتبار لسلطة الكلمة، لا بتقديسها، بل بفهم ما تُخفيه، وما تُقصيه، وما تُعيد ترتيبه باسم المعقول والمسموح. فالمعركة على المعنى لم تعد تأويليّة فحسب، بل وجودية في جوهرها.